الفضيل بن عياض وزيراً رضي الله عنه
د. أحمد الزهراني
قرأت يوماً حكاية الرشيد مع الفضيل بن عياض، وهي قصة مشهورة - وإن كان في سندها مقال- بكى فيها الرشيد من موعظة الفضيل، وبلغ الرشيد من الإعجاب به مبلغاً حتى قال لوزيره: «إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين»، ومع هذا فقد سألت نفسي: تُرى لو أنّ الرشيد احتاج إلى وزير للمال أو للحرب أو غيرها من الولايات أكان سيبحث عن الفضيل؟
ثمّ تخيّلت لو أنّ الفضيل في عصرنا ورُشّح لمنصب رئيس للبلاد أو وزير للدفاع أو القضاء، فقلت في نفسي: لو كنت في زمن يُرشح فيه مثل الفضيل لما انتخبته ولما أعطيته صوتي، ماذا يعود على الأمّة من عابد يهوى الزوايا للخلوة والبكاء والصلاة. ربّما يغضب البعض من هذا الكلام ظناً منه أنّ فيه انتقاصاً للفضيل رحمه الله، وليس كذلك، بل هو موافق لسنّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
لقد عاش في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتحت رعايته عدد كبير من صحابته، كلّهم كانوا قِمَماً في العبادة والتقوى والخوف من الله تعالى، لكن كم منهم ولاّه النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ولاية عامة؟
وأولئك الذين ولاّهم هل كانوا هم الأشهر في الجانب العبادي والتقوى والخوف من الله؟
هذا أبو ذر جندب بن جنادة -رضي الله عنه- الذي قال عنه صلّى الله عليه وسلّم: «ما أقلّت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر» يقول: قلتُ: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلاّ من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها».
إن التنوّع في الطرائق والأساليب والقدرات ما دام في إطار أهل السنة والجماعة هو إثراء للمجتمع المسلم وقوة له، لكن شريطة ألاّ يكون هناك مغالبة وخلط في الإحلال.
إن وجود مجموعات أو افراد من العلماء والصالحين الزهاد الذين هجروا الدنيا، وعافوا حتى مباحاتها، وغلب على نفوسهم الخوف من عواقب الآخرة والتزود لها أمر لا يُنكر ولا يزعِج، ولا ينبغي أن يكون مدعاة للتذمر، فوجود هؤلاء ضرورة توازنية ومواعظ تخفّف من غلواء التكالب على الدنيا، فكم من غافل ساهٍ توقف أمام موعظة بل أمام منظر أو قصة زاهد ليرعوي قلبه، ويخفف من تمسكه بالدنيا، ولهذا كان الرشيد وغيره من الأئمة كلما أحسوا بقساوة القلب والانغماس في شؤون الدنيا والسياسة والحكم يتطلبون العلماء والزهاد منهم خاصة للعظة والاعتبار.
لكنّ من كان هذا حاله فإنّه يغلب عليه التفكير العاطفي أكثر من السياسي أو التقني الاحترافي، فيكون هذا سبباً في ضعفه من الجوانب الأخرى، وهذا ما لاحظه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في أبي ذر فقال له: إنك ضعيف.
هنا نلاحظ مسألة الكفاءة، فامتناع النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عن توليته سببه ما يعلمه من شخصية أبي ذر الّتي لا ينقصها الأمانة، بمعنى المحافظة على الحقوق العامة، ولا الخوف من الله والتقوى والزهد، لكنّ الولايات العامة لا يصبر على سياسة الناس فيها من غلب عليه الجانب العبادي مثل أبي ذر .
وعند الحديث عن المنهج الإسلامي في التربية والتنمية فإنّك لا تستطيع أن تغفل اهتمامه بالفروق الفردية والسمات الشخصية وتكريسها وتطويرها والاهتمام بها؛ فالمنهج الإسلامي يعترف بالقدرات الحسيّة والمعنوية النفسيّة، ولا يحجّر واسعاً على أي مسلم يرى أنّ طريقاً ما هو الأصلح له في عمارة دنياه والتزوّد لآخرته.
وهذا الأمر بدا جلياً واضحاً من عهد الصحابة، أي منذ وضع اللبنات الأولى في بناء الجيل الأمثل والأوّل الذي قامت عليه وفيه الدولة الإسلامية، ولهذا أمثلة عديدة لا أريد الاستطراد فيها لكونها معلومة، ومنها ملاحظة النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لهذه السمات، فكان وزيراه أبو بكر وعمر، وكان على جيوشه خالد بن الوليد، وأسامة، وأبو عبيدة ونحوهم، وكان للكتابة معاوية وعبدالله بن عمرو، وكان للجانب الإعلامي شاعره حسان وخطيبه كعب، وأمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود فتعلمها في أيام معدودات، وغير ذلك كثير يعلمه من يطلع على سيرته صلّى الله عليه وسلّم .
والصحابة الكرام كانوا ملاحظين لهذا الأمر، فعملوا به في خاصة أنفسهم وفيمن تحتهم، فهذا أبو بكر وعمر يسيران في الأمر بنفس السيرة، فانظر للذين تولوا الولايات في عهدهم كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومعاوية وغيرهم تجدهم ليسوا في العبادة والتقوى مثل من هم فوقهم، لكنّهم كانوا الأصلح والأكفأ .
ولم يكونوا -رضي الله عنهم- هواة استنساخ وتكرار، بل كل واحد منهم عارف بنفسه مستغل لها فيما تحسن، فمثلاً: في الوقت الذي امتهن بعض الصحابة التجارة فكانوا من الأثرياء كعثمان وعبد الرحمن بن عوف، لم يطق بعض الصحابة أن يجمع بين التجارة وبين العبادة، وقد كان أبو الدرداء تاجرًا مشهورًا، فلما أسلم تفرغ للعلم والعبادة، وقال: «أردت أن أجمع بين التجارة والعبادة، فلم يستقم، فتركت التجارة وأقبلت على العبادة» ولم ينكر أحد عليه ذلك، كما لم ينكر هو على غيره التجارة والثراء .
لست هنا بصدد الحديث عن مسألة القدرات، ولا أقصدها بالذات وإنّما أريد أن أدلف منها إلى شيء آخر، ألا وهو مسألة الكفاءة.
لقد غلب على كثير منّا ملاحظة الجانب العبادي والشهرة فيه عند تقييم الناس، ومن ثمّ تكليفهم وارتضاؤهم والرضا بهم، حتّى ضحّى من أجل ذلك بالجانب المهني الإتقاني والاحترافي للمهن والمناصب والوظائف .
إنّك تعجب حين ترى أنّ بعض المؤسسات الرسمية - والأهلية كذلك - يتكدس فيها كثير من الصالحين الّذين لا نقدح في دينهم وتقواهم، لكنّهم ليسوا أكفاء في شغل تلك الوظائف .
هذا الأمر أصبح مدعاة لنسبة التقصير والفشل الّذي يحتوش كثيراً من المؤسسات أو المشاريع الإسلامية إلى الإسلاميين أو الشرعيين، وفي هذا قدر كبير من الصحة، والسبب هو تغليب الجانب العبادي أو العلمي في شخصية شاغل المنصب، تحت ذريعة سدّ الثغرات .
وهذا حدث كذلك، ويحدث عندما تجري انتخابات لشغل وظائف ذات طابع مهني، فمن العجب أن يتم الانتخاب فقط بحسب الجانب العبادي أو السلوكي في شخصية المرشح.
أنا هنا لا أهمل الجانب الشرعي ودوره في (بعض) الوظائف، لكنّي أعترض على جعله هو المقياس الذي يندفع إليه الناس بدافع العاطفة .
في الحقيقة هذا السلوك لا علاقة له بالشرع ولا بالدين؛ فالشريعة تعطي التخصص وإتقانه والقدرة على العطاء فيه أولوية على سمات الشخص الدينية، وهذا أمر بلا شك يحتاج إلى ميزان .
قال عمر بن الخطاب لجلسائه يومًا: تمنوا. فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم، فأنفقها في سبيل الله. فقال: تمنوا. فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهبًا، فأنفقه في سبيل الله. فقال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالاً من أمثال أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعمِلُهم في طاعة الله .
هذا يقوله عمر في عصر فيه الصحابة وكبار التابعين المشاهير في العلم والسنة والزهد والعبادة، ومع هذا كان عمر يفتقد رجالاً كأبي عبيدة وحذيفة ومعاذ. فما الذي كان يميزهم عن غيرهم؟
وهذا الأمر راجع في مجمله إلى الفقه الواقعي، الفقه الّذي يعترف بأثر التّغيير الّتي يطرأ على الأمّة وعلى الأفراد في طبائعهم وسلوكياتهم، وتغير بعض أنماط السلوك والتفكير لأسباب عديدة يطول ذكرها، لكن الشاهد أنّ الواقع الذي يعيشه المجتمع يفرض ضوابط وشروطاً وقواعد تحكم عملية الاختيار، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب -رضي الله- عنه يقول: اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية، الأصلح بحسبها .
فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها، على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزو؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيغزي مع القوي الفاجر .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال: «إن خالداً لسيف سلّه الله على المشركين» مع أنه أحياناً كان يعمل ما قد ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه - مرة - رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد». لما أرسله إلى خزيمة فقتلهم، وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتى وداهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وضمِن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب; لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل.
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم». نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفاً. مع أنه قد روي: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء، أصدق لهجة من أبي ذر»
وأمّر النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل استعطافاً لأقاربه الذين بعثه إليهم، على من هم أفضل منه، وأمّر أسامة بن زيد، لأجل ثأر أبيه.
ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه، في العلم والإيمان.
وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنه ما زال يستعمل خالداً في حرب أهل الردة، وفي فتوح العراق والشام، وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل، وقد ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها، بل عاتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة، في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه». انتهى كلامه رحمه الله.
وقد كان أصحاب الحديث أكثر من أبرز هذا المنهج، وأعلى من شأن التّخصّص، وعرف منزلة صاحبه. قال عمرو بن محمّد النّاقد: «سمعت وكيعاً وسأله رجل فقال له: يا أبا سفيان: تعرف حديث سعيد بن عبيد الطّائي عن الشّعبي في رجل حجّ عن غيره ثمّ حجّ عن نفسه؟ قال: من يرويه؟ قال: وهب بن إسماعيل، فقال: ذلك رجل صالح، وللحديث رجال» .
وقال زكريا الساجي عن يحيى بن معين قال: كان محمد بن عبد الله الأنصاري يليق به القضاء، فقيل له: يا أبا زكريا فالحديث؟ فقال:
للحرب أقوامٌ لها خُلِقُوا *** وللدواوين حُسّابٌ وكُتّابُ
وقال يحيى بن سعيد القطان: «آتَمِنُ الرجل على مائة ألف ولا آتمِنُه على حديث».
وعن ابن أبي الزناد عن أبيه قال: «أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يُؤخذ عنهم شيء من الحديث، يُقال: ليس من أهله».
وقال مالك بن أنس: «إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين عند هذه الأساطين، وأشار إلى مسجد الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتُمِنَ على بيت مال لكان به أميناً، إلاّ أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن».
وهذا الحِسّ التقييمي المنهجي قائم على البصر والمعرفة ما يؤول إليه حال الأمّة إذا تساهل الناس فيه، قال عليّ بن المديني:« لو تركتُ أهل البصرة لحال القدر، وتركتُ أهل الكوفة للتّشيّع: خربت الكتب» أي لذهب الحديث .
وقال سليمان بن أحمد الواسطي: « قلت لعبد الرّحمن بن مهدي: سمعتك تحدّث عن رجلٍ، أصحابنا يكرهون الحديث عنه؟ قال: مَن هو؟ قلت: محمّد بن راشد الدّمشقي، قال: ولِمَ؟ قلت: كان قدريّاً، فغضب وقال: ما يضرّه».
وقال محمّد بن عبدالله بن حمّاد الموصلي: « لست بتارك الرّواية عن رجل صاحب حديث يبصر الحديث بعد أن لا يكون كذوباً للتّشيّع والقدر، ولست براوٍ عن رجل لا يبصر الحديث ولا يعقله، ولو كان أفضل من فتح الموصلي».
نحتاج كثيراً إلى توقف وتأمل في أوضاعنا الّتي تغوّلت فيها المصالح الشخصية أو الفئوية، وأحياناً الفهم المغلوط للمصالح الشرعية، والمظلوم في خضمّ هذا التغوّل هو الكفاءة والاحتراف والإتقان الّذي سيتلاشى، ويختفي أصحابه إذا لم يجدوا الإنصاف والتقدير، ونظرة خاطفة على الأقسام الشرعية في الجامعات والقضاء والمؤسسات الدعوية توقفك على حجم الخلل الذي دخلها من هذا الجانب، وقُلْ مثل ذلك في مجالات أقلّ مساساً بالجانب الشرعي، فتجد أشخاصاً ربّما يُلتمس لديهم البركة من دينهم وعبادتهم، ويلهمك النظر إلى وجوههم ذكر الله، ولكنّهم ليسوا بأهل لشغل ما هم فيه من الوظائف، وتحمل ما حُمّلوه من المسؤوليات، فيحصل من طرفهم من التقصير الشيء الكثير، ثمّ يُجاملون ويُتركون في أماكنهم حتّى يحصل الضرر العظيم، ويكون هذا فتنة للناس، وحجة للمنافقين الذين يلصقون بالدين وأهله كل نقيصة.
د. أحمد الزهراني
قرأت يوماً حكاية الرشيد مع الفضيل بن عياض، وهي قصة مشهورة - وإن كان في سندها مقال- بكى فيها الرشيد من موعظة الفضيل، وبلغ الرشيد من الإعجاب به مبلغاً حتى قال لوزيره: «إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين»، ومع هذا فقد سألت نفسي: تُرى لو أنّ الرشيد احتاج إلى وزير للمال أو للحرب أو غيرها من الولايات أكان سيبحث عن الفضيل؟
ثمّ تخيّلت لو أنّ الفضيل في عصرنا ورُشّح لمنصب رئيس للبلاد أو وزير للدفاع أو القضاء، فقلت في نفسي: لو كنت في زمن يُرشح فيه مثل الفضيل لما انتخبته ولما أعطيته صوتي، ماذا يعود على الأمّة من عابد يهوى الزوايا للخلوة والبكاء والصلاة. ربّما يغضب البعض من هذا الكلام ظناً منه أنّ فيه انتقاصاً للفضيل رحمه الله، وليس كذلك، بل هو موافق لسنّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
لقد عاش في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتحت رعايته عدد كبير من صحابته، كلّهم كانوا قِمَماً في العبادة والتقوى والخوف من الله تعالى، لكن كم منهم ولاّه النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ولاية عامة؟
وأولئك الذين ولاّهم هل كانوا هم الأشهر في الجانب العبادي والتقوى والخوف من الله؟
هذا أبو ذر جندب بن جنادة -رضي الله عنه- الذي قال عنه صلّى الله عليه وسلّم: «ما أقلّت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر» يقول: قلتُ: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلاّ من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها».
إن التنوّع في الطرائق والأساليب والقدرات ما دام في إطار أهل السنة والجماعة هو إثراء للمجتمع المسلم وقوة له، لكن شريطة ألاّ يكون هناك مغالبة وخلط في الإحلال.
إن وجود مجموعات أو افراد من العلماء والصالحين الزهاد الذين هجروا الدنيا، وعافوا حتى مباحاتها، وغلب على نفوسهم الخوف من عواقب الآخرة والتزود لها أمر لا يُنكر ولا يزعِج، ولا ينبغي أن يكون مدعاة للتذمر، فوجود هؤلاء ضرورة توازنية ومواعظ تخفّف من غلواء التكالب على الدنيا، فكم من غافل ساهٍ توقف أمام موعظة بل أمام منظر أو قصة زاهد ليرعوي قلبه، ويخفف من تمسكه بالدنيا، ولهذا كان الرشيد وغيره من الأئمة كلما أحسوا بقساوة القلب والانغماس في شؤون الدنيا والسياسة والحكم يتطلبون العلماء والزهاد منهم خاصة للعظة والاعتبار.
لكنّ من كان هذا حاله فإنّه يغلب عليه التفكير العاطفي أكثر من السياسي أو التقني الاحترافي، فيكون هذا سبباً في ضعفه من الجوانب الأخرى، وهذا ما لاحظه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في أبي ذر فقال له: إنك ضعيف.
هنا نلاحظ مسألة الكفاءة، فامتناع النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عن توليته سببه ما يعلمه من شخصية أبي ذر الّتي لا ينقصها الأمانة، بمعنى المحافظة على الحقوق العامة، ولا الخوف من الله والتقوى والزهد، لكنّ الولايات العامة لا يصبر على سياسة الناس فيها من غلب عليه الجانب العبادي مثل أبي ذر .
وعند الحديث عن المنهج الإسلامي في التربية والتنمية فإنّك لا تستطيع أن تغفل اهتمامه بالفروق الفردية والسمات الشخصية وتكريسها وتطويرها والاهتمام بها؛ فالمنهج الإسلامي يعترف بالقدرات الحسيّة والمعنوية النفسيّة، ولا يحجّر واسعاً على أي مسلم يرى أنّ طريقاً ما هو الأصلح له في عمارة دنياه والتزوّد لآخرته.
وهذا الأمر بدا جلياً واضحاً من عهد الصحابة، أي منذ وضع اللبنات الأولى في بناء الجيل الأمثل والأوّل الذي قامت عليه وفيه الدولة الإسلامية، ولهذا أمثلة عديدة لا أريد الاستطراد فيها لكونها معلومة، ومنها ملاحظة النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لهذه السمات، فكان وزيراه أبو بكر وعمر، وكان على جيوشه خالد بن الوليد، وأسامة، وأبو عبيدة ونحوهم، وكان للكتابة معاوية وعبدالله بن عمرو، وكان للجانب الإعلامي شاعره حسان وخطيبه كعب، وأمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود فتعلمها في أيام معدودات، وغير ذلك كثير يعلمه من يطلع على سيرته صلّى الله عليه وسلّم .
والصحابة الكرام كانوا ملاحظين لهذا الأمر، فعملوا به في خاصة أنفسهم وفيمن تحتهم، فهذا أبو بكر وعمر يسيران في الأمر بنفس السيرة، فانظر للذين تولوا الولايات في عهدهم كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومعاوية وغيرهم تجدهم ليسوا في العبادة والتقوى مثل من هم فوقهم، لكنّهم كانوا الأصلح والأكفأ .
ولم يكونوا -رضي الله عنهم- هواة استنساخ وتكرار، بل كل واحد منهم عارف بنفسه مستغل لها فيما تحسن، فمثلاً: في الوقت الذي امتهن بعض الصحابة التجارة فكانوا من الأثرياء كعثمان وعبد الرحمن بن عوف، لم يطق بعض الصحابة أن يجمع بين التجارة وبين العبادة، وقد كان أبو الدرداء تاجرًا مشهورًا، فلما أسلم تفرغ للعلم والعبادة، وقال: «أردت أن أجمع بين التجارة والعبادة، فلم يستقم، فتركت التجارة وأقبلت على العبادة» ولم ينكر أحد عليه ذلك، كما لم ينكر هو على غيره التجارة والثراء .
لست هنا بصدد الحديث عن مسألة القدرات، ولا أقصدها بالذات وإنّما أريد أن أدلف منها إلى شيء آخر، ألا وهو مسألة الكفاءة.
لقد غلب على كثير منّا ملاحظة الجانب العبادي والشهرة فيه عند تقييم الناس، ومن ثمّ تكليفهم وارتضاؤهم والرضا بهم، حتّى ضحّى من أجل ذلك بالجانب المهني الإتقاني والاحترافي للمهن والمناصب والوظائف .
إنّك تعجب حين ترى أنّ بعض المؤسسات الرسمية - والأهلية كذلك - يتكدس فيها كثير من الصالحين الّذين لا نقدح في دينهم وتقواهم، لكنّهم ليسوا أكفاء في شغل تلك الوظائف .
هذا الأمر أصبح مدعاة لنسبة التقصير والفشل الّذي يحتوش كثيراً من المؤسسات أو المشاريع الإسلامية إلى الإسلاميين أو الشرعيين، وفي هذا قدر كبير من الصحة، والسبب هو تغليب الجانب العبادي أو العلمي في شخصية شاغل المنصب، تحت ذريعة سدّ الثغرات .
وهذا حدث كذلك، ويحدث عندما تجري انتخابات لشغل وظائف ذات طابع مهني، فمن العجب أن يتم الانتخاب فقط بحسب الجانب العبادي أو السلوكي في شخصية المرشح.
أنا هنا لا أهمل الجانب الشرعي ودوره في (بعض) الوظائف، لكنّي أعترض على جعله هو المقياس الذي يندفع إليه الناس بدافع العاطفة .
في الحقيقة هذا السلوك لا علاقة له بالشرع ولا بالدين؛ فالشريعة تعطي التخصص وإتقانه والقدرة على العطاء فيه أولوية على سمات الشخص الدينية، وهذا أمر بلا شك يحتاج إلى ميزان .
قال عمر بن الخطاب لجلسائه يومًا: تمنوا. فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم، فأنفقها في سبيل الله. فقال: تمنوا. فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهبًا، فأنفقه في سبيل الله. فقال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالاً من أمثال أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعمِلُهم في طاعة الله .
هذا يقوله عمر في عصر فيه الصحابة وكبار التابعين المشاهير في العلم والسنة والزهد والعبادة، ومع هذا كان عمر يفتقد رجالاً كأبي عبيدة وحذيفة ومعاذ. فما الذي كان يميزهم عن غيرهم؟
وهذا الأمر راجع في مجمله إلى الفقه الواقعي، الفقه الّذي يعترف بأثر التّغيير الّتي يطرأ على الأمّة وعلى الأفراد في طبائعهم وسلوكياتهم، وتغير بعض أنماط السلوك والتفكير لأسباب عديدة يطول ذكرها، لكن الشاهد أنّ الواقع الذي يعيشه المجتمع يفرض ضوابط وشروطاً وقواعد تحكم عملية الاختيار، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب -رضي الله- عنه يقول: اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية، الأصلح بحسبها .
فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها، على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزو؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيغزي مع القوي الفاجر .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال: «إن خالداً لسيف سلّه الله على المشركين» مع أنه أحياناً كان يعمل ما قد ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه - مرة - رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد». لما أرسله إلى خزيمة فقتلهم، وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتى وداهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وضمِن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب; لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل.
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم». نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفاً. مع أنه قد روي: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء، أصدق لهجة من أبي ذر»
وأمّر النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل استعطافاً لأقاربه الذين بعثه إليهم، على من هم أفضل منه، وأمّر أسامة بن زيد، لأجل ثأر أبيه.
ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه، في العلم والإيمان.
وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنه ما زال يستعمل خالداً في حرب أهل الردة، وفي فتوح العراق والشام، وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل، وقد ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها، بل عاتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة، في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه». انتهى كلامه رحمه الله.
وقد كان أصحاب الحديث أكثر من أبرز هذا المنهج، وأعلى من شأن التّخصّص، وعرف منزلة صاحبه. قال عمرو بن محمّد النّاقد: «سمعت وكيعاً وسأله رجل فقال له: يا أبا سفيان: تعرف حديث سعيد بن عبيد الطّائي عن الشّعبي في رجل حجّ عن غيره ثمّ حجّ عن نفسه؟ قال: من يرويه؟ قال: وهب بن إسماعيل، فقال: ذلك رجل صالح، وللحديث رجال» .
وقال زكريا الساجي عن يحيى بن معين قال: كان محمد بن عبد الله الأنصاري يليق به القضاء، فقيل له: يا أبا زكريا فالحديث؟ فقال:
للحرب أقوامٌ لها خُلِقُوا *** وللدواوين حُسّابٌ وكُتّابُ
وقال يحيى بن سعيد القطان: «آتَمِنُ الرجل على مائة ألف ولا آتمِنُه على حديث».
وعن ابن أبي الزناد عن أبيه قال: «أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يُؤخذ عنهم شيء من الحديث، يُقال: ليس من أهله».
وقال مالك بن أنس: «إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين عند هذه الأساطين، وأشار إلى مسجد الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتُمِنَ على بيت مال لكان به أميناً، إلاّ أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن».
وهذا الحِسّ التقييمي المنهجي قائم على البصر والمعرفة ما يؤول إليه حال الأمّة إذا تساهل الناس فيه، قال عليّ بن المديني:« لو تركتُ أهل البصرة لحال القدر، وتركتُ أهل الكوفة للتّشيّع: خربت الكتب» أي لذهب الحديث .
وقال سليمان بن أحمد الواسطي: « قلت لعبد الرّحمن بن مهدي: سمعتك تحدّث عن رجلٍ، أصحابنا يكرهون الحديث عنه؟ قال: مَن هو؟ قلت: محمّد بن راشد الدّمشقي، قال: ولِمَ؟ قلت: كان قدريّاً، فغضب وقال: ما يضرّه».
وقال محمّد بن عبدالله بن حمّاد الموصلي: « لست بتارك الرّواية عن رجل صاحب حديث يبصر الحديث بعد أن لا يكون كذوباً للتّشيّع والقدر، ولست براوٍ عن رجل لا يبصر الحديث ولا يعقله، ولو كان أفضل من فتح الموصلي».
نحتاج كثيراً إلى توقف وتأمل في أوضاعنا الّتي تغوّلت فيها المصالح الشخصية أو الفئوية، وأحياناً الفهم المغلوط للمصالح الشرعية، والمظلوم في خضمّ هذا التغوّل هو الكفاءة والاحتراف والإتقان الّذي سيتلاشى، ويختفي أصحابه إذا لم يجدوا الإنصاف والتقدير، ونظرة خاطفة على الأقسام الشرعية في الجامعات والقضاء والمؤسسات الدعوية توقفك على حجم الخلل الذي دخلها من هذا الجانب، وقُلْ مثل ذلك في مجالات أقلّ مساساً بالجانب الشرعي، فتجد أشخاصاً ربّما يُلتمس لديهم البركة من دينهم وعبادتهم، ويلهمك النظر إلى وجوههم ذكر الله، ولكنّهم ليسوا بأهل لشغل ما هم فيه من الوظائف، وتحمل ما حُمّلوه من المسؤوليات، فيحصل من طرفهم من التقصير الشيء الكثير، ثمّ يُجاملون ويُتركون في أماكنهم حتّى يحصل الضرر العظيم، ويكون هذا فتنة للناس، وحجة للمنافقين الذين يلصقون بالدين وأهله كل نقيصة.